الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
قال ابن عبد الحكم: وكان من حفظ من الذين شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم ومن لم يكن له برسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة وذكرهم جملة واحدة فقال: الزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاصي وكان أمير القوم وعبد الله بن عمرو بن العاصي وخارجة بن حذافة العدوي وعبد الله بن عمر بن الخطاب وقيس بن أبي العاصي السهمي والمقداد بن الأسود وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ونافع بن عبد قيس الفهري و يقال بل هو عقبة بن نافع وأبو عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهري وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عبدة وعبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة ووردان مولى عمرو بن العاصي وكان حامل لواء عمرو بن العاصي - رضي الله عنهم. وقد اختلف في سعد بن أبي وقاص فقيل: إنما دخلها بعد الفتح. وشهد الفتح من الأنصار عبادة بن الصامت وقد شهد بدرًا وبيعة العقبة ومحمد بن مسلمة الأنصاري وقد شهد بدرا وهو الذي أرسله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى مصر فقاسم عمرو بن العاصي ماله وهو أحد من كان صعد الحصن مع الزبير بن العوام ومسلمة بن مخلد الأنصاري يقال: له صحبة وأبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وأبو الدرداء عويمر بن عامر وقيل: عويمر بن زيد. و
: أبو بصرة حميل بن بصرة الغفاري وأبو در جندب بن جنادة الغفاري. وشهد الفتح مع عمرو بن العاصي هبيب بن مغفل وإليه ينسب وادي هبيب الذي بالمغرب وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وكعب بن ضنة العبسي ويقال: كعب بن يسار بن. ضنة وعقبة بن عامر الجهني وهو كان رسول عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاصي حين كتب إليه يأمره أن يرجع إن لم يكن دخل أرض مصر وأبو زمعة البلوي وبرح بن عسكل ويقال: برح بن عسكر شهد فتح مصر واختظ بها وجنادة بن أبي أمية الأزدي وسفيان بن وهب الخولاني وله صحبة ومعاوية بن حديج الكندي وهو كان رسول عمرو بن العاصي إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية وقد اختلف فيه فقال قوم: له صحبة وقال آخرون: ليست له صحبة وعامر مولى حمل الذي يقال له: عامر حمل شهد الفتح وهو مملوك وعمار بن ياسر ولكن دخل بعد الفتح في أيام عثمان وجهه إليها في بعض أموره. انتهى كلام ابن عبد الحكم باختصار. وقال ابن كثير في فتح مصر وجها آخر على ما أخبرنا به شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقيني الشافعي مشافهة بإجازته من الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير مجموعًا من كلام ابن إسحاق وغيره قالوا: لما استكمل المسلمون فتح الشأم بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاصي إلى مصر. وزعم سيف: أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بسر بن أبي أرطاة وخارجة بن حذافة وعمير بن وهب الجمحي فاجتمعوا على باب مصر فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل الثبات فلما تصافوا قال عمرو بن العاصي: لا تعجلوا حتى نعذر إليكم ليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام راهبا هده البلاد فبرزا إليه فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هده البلاد فاسمعا: إن الله بعث محمدًا بالحق وأمره به وأمرنا به محمد وأدى إلينا كل الذي أمر به ثم مضى وتركنا على الواضحة وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس فنحن ندعوكم إلى الإسلام فمن أجابنا إليه فمثلنا ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبد لنا له المنعة. وقد أعلمنا أننا مفتتحوكم وأوصانا بكم حفظا لرحمنا منكم وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيين خيرًا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيرًا لأن لهم ذمة ورحمًا. فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء معروفة شريفة كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف والملك منهم فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم وأغربوا فلذ لك صارت إلى إبراهيم عليه السلام. مرحبا به وأهلا. أمنا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع ولكني أؤجلكما ثلاثًا لتنظرا ولتناظرا قومكما وإلا ناجزتكم قالا: زدنا فزادهم يومًا فقالا: زدنا فزادهم يومًا فرجعا إلى المقوقس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم وقال لأهل مصر: أما نحن فنجتهد أن ند فع عنكم لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام وأشار عليهم بأن يبيتوا للمسلمين فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم! فألح الأرطبون في أن يبيتوا للمسلمين ففعلوا فلم يظفروا بشيء بل قتل منهم طائفة منهم الأرطبون. وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع وارتقى الزبير عليهم سور البلد. فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو. فأمضوا الصلح وكتب لهم عمرو كتاب أمان: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاصي أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقض ولا تساكنهم النوبة . وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم ما جنى لصوتهم فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزية بقدرهم وذمتنا ممن أبى بريئة. وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثا أفي كل ثلث جباية ثلث ما عليهم. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. وشهد عليه الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر. فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط. وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة فأبى عمرو أن يردها عليهما وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه. فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة الأيام التي آمنهم فيها أن يرد عليهم وكل شيء أخذ ممن لم يقاتل فكذلك ومن قاتل فلا ترد عليه سباياه. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عتاب حدثنا عبد الله أخبرني عبد الله بن عقبة - وهو عبد الله بن لهيعة بن عقبة - حدثني يزيد بن أبي حبيب عمن سمع عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال: يا عمرو بن العاصي اقسمها فقال عمرو: لا أقسمها فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين وكتب إلى عمر فكتب إليه عمر: أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة. تفرد به أحمد وفي إسناده ضعف من جهة ابن لهيعة لكنه عليم بأمور مصر ومن جهة المبهم الذي لم يسم فلو صح لدل على فتحها عنوة ولدل على أن الإمام يخير في الأراضي العنوة إن شاء قسمها وإن شاء أبقاها قلت: قد رواه الطحاوي بسند صحيح. وقال سيف: أن عمرو بن العاصي لما التقى مع المقوقس جعل كثير من لمسلمين يفر من الزحف فجعل عمرو يذمرهم ويحثهم على الثبات فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد! فقال له عمرو: اسكت فإنما أنت كلب فقال له الرجل: فأنت إذا أمير الكلاب! فأعرض عنه عمرو و نادى بطلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة قال لهم عمرو: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين فنهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر. انتهى كلام ابن كثير وغيره. وقد سقنا ما ذكره ابن كثير هنا لزيادة فيما ذكره ولكونه حافظًا محدثًا فيصير بذلك ما ذكرناه من فتح مصر من طرق عديدة لتكثر في هذا الكتاب الفائدة إن شاء الله تعالى. الإمبراطورية الاستعمارية انظر فيكتور سحاب - المصدر السابق. ويرى المؤرخ الدكتور أدمون رباط أن نهوض سرريا اليعقوبية في وجه بيزنطية كان قومية دينية إلى ذلك نضيف أنه كان لموقف حاكم مصر الروماني المقوقس أثر مهم على سير أحداث فتوح مصر فقد تراوح موقفه عمليًا بين المفاوضات والانحياز إلى جانب العرب بينما رفض الإمبراطور البيزنطي الصلح الذي تفاوض عليه المقوقس مع عمرو بن العاصي. أما المقوقس فلم يعبأ بهرقل بل أعلم ابن العاصي أنه لم يخرج عما عاقده عليه وأن القبط موفون له ما صالحهم عليه. وتحدثنا المصادر أن عمرًا طلب من المقوقس أن يضمن له الجسور ويقيم للمسلمين الإنزال والضيافة بين الفسطاط والإسكندرية و صار القبط والمقوقس أعوانا للمسلمين. هذا وقد عذ مؤرخو الفرنجة موقف المقوقس خيانة. انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 1 8 وابن عبد الحكم: 65 - 67 وخطط المقريزي: 1 3 ودراسات عن ابن عبد الحكم: المقوقس و دوره في فتح مصر لباهور لبيب ص 77 ما بعدها(. وبهذا فان المقاومة التي لقيها المسلمون كانت من العساكر الرومانية وإن الإسكندرية عند ما ثارت على العرب بعد فتحها إنما كان ذلك نتيجة مجيء جيش الروم بحرًا. ولم يساعد الروم هذه المرة سوى ثلاث قرى مصرية هي سلطيس ومصيل وبلهيت. المقريزي: 1 4 والبلاذري - فتوح بلدان: 259. يلخص أ لفرد بتلر في كتابه: فتح العرب لمصر ميزان القوى الحقيقي بقوله إن تعداد أنصار خلقيدونية المتجمعين في الإسكندرية على الخصوص كان نحوًا من مائتي ألف بينما كان تعداد اليعاقبة الأقباط بلغ ستة ملايين. ما ورد في فضل مصر من الآيات الشريفة والأحاديث النبوية قال الكندي وغيره من المؤرخين: فمن فضائل مصر أن الله عز وجل ذكرها في كتابه العزيز في أربعة وعشرين موضعًا منها ما هو بصريح اللفظ ومنها ما د لت عليه القرائن والتفاسير. فأما صريح اللفظ فمنه قوله تعالى: " قال ابن عباس وسعيد بن المسيب ووهب بن منبه وغيرهم: هي مصر. وقوله تعالى: " يعني مصر وقوله تعالى: " يعني قوم فرعون وأن بني إسرائيل أورثوا مصر. وقوله تعالى: " وقوله عز وجل مخبرًا عن نبيه موسى عليه السلام: " وقوله عز وجل: " وقوله تعالى مخبرًا عن فرعون: " قوله تعالى مخبرا عن نبيه يوسف عليه السلام: " يعني أرض مصر. وقوله تعالى: " وقوله عز وجل: " وقوله تعالى مخبرا عن ابن يعقوب عليه السلام: " يعني مصر. وقوله تعالى: " وأما ورد في حقها من الأحاديث النبوية فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا " قال ابن كثير رحمه الله: والمراد بالرحم أنهم أخوال إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام أمه هاجر القبطية وهو الذبيح على الصحيح وهو والد عرب الحجاز الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوال إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه مارية القبطية من سنى كورة أنصنا وقد وضع عنهم معاوية الجزية إكرامًا لإبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن كثير. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا فذلك الجند خير أجناد الأرض " فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ولم ذلك يا رسول الله فقال: " لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة " وعنه صلى الله عليه وسلم وذكر مصر: " ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤونته ". وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما: أهل مصر أكرم عاجم كلها وأسمحهم يدًا وأفضلهم عنصرًا وأقربهم رحمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة. وقال أيضا: لما خلق الله آدم مثل له الد نيا: شرقها وغربها وسهلها وجبلها وأنهارها وبحارها وعامرها وخرابها ومن يسكنها من الأمم. ومن يملكها من الملوك فلما رأى مصر رآها أرضًا سهلة ذات نهر جارٍ مادته من الجنة تنحدر فيه البركة ورأى جبلًا من جبالها مكسوًا نورًا لا يخلو من نظر الرب عز وجل إليه بالرحمة في سفحه أشجار مثمرة فروعها في الجنة تسقى بماء الرحمة فدعا آدم في النيل بالبركة ودعا في أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات قال: يا أيها الجبل المرحوم سفحك جنة وتربتك مسكة تدفن فيها عرائس الجنة أرض حافظة مطبقة رحيمة لا خلتك يا مصر بركة ولا زال بك حفظة ولا زال منك ملك وعز يا أرض مصر فيك الخبايا والكنوز ولك البر والثروة سال نهرك عسلًا كثر الله رزقك ودر ضرعك وزكا نباتك وعظمت بركتك وخصبت ولازال فيك يا مصر خير ما لم تتجبري وتتكبري أو تخوني فإذا فعلت ذلك عراك شر ثم يغور خيرك. فكان عليه السلام أول من دعا لها بالرحمة والخصب والرأفة والبركة. وقال عبد الله بن عباس: دعا نوح عليه السلام لابنه بيصر بن حام - وهو أبو مصر الذي سميت مصر على اسمه - فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض الطيبة المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد ونهرها أفضل أنهار الدنيا واجعل فيها أفضل البركات وسخر له ولولده الأرض وذللها لهم وقوهم عليها وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما: لما قسم نوح عليه السلام الأرض بين ولده جعل لحامٍ مصر وسواحلها والغرب وشاطىء النيل فلما قدم بيصر بن حام وبلغ العريش قال: " اللهم إن كانت هذه الأرض التي وعدتنا على لسان نبيك نوح وجعلتها لنا منزلًا فاصرف عنا وباها وطيب لنا ثراها واجمع ماها وأنبت كلاها وبارك لنا فيها وتمم لنا وعدك إنك على كل شيء قدير وإنك لا تخلف الميعاد " وجعلها بيصر لابنه مصر وسماها به. يأتي ذكر ذلك عند ذكر من ملك مصر قبل الإسلام في هذا المحل إن شاء الله تعالى. والقبط ولد مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وقال كعب الأحبار: لولا رغبتي في بيت المقدس لما سكنت إلا مصر فقيل له: ولم قال: لأنها معافاة من الفتن ومن أراد بها سوءًا كبه الله على وجهه وهو بلد مبارك لأهله فيه. وروى ابن يونس عنه قال: من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر إذا زخرفت وفي رواية: إذا أزهرت. وروى ابن يونس بإسناده إلى أبي بصرة الغفاري قال: سلطان مصر سلطان الأرض كلها. قلت: ولهذا الخبر الصحيح جعلنا في آخر تراجم ملوك مصر حوادث سائر الأقطار كلها. وقال: في التوراة مكتوب: مصر خزائن الأرض كلها فمن أراد بها سوءًا قصمه الله. وقال عمرو بن العاصي رضي الله عنه: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنه قال: خلقت الدنيا على خمس صور: على صورة الطير برأسه وصدره وجناحيه وذنبه فالرأس مكة والمدينة واليمن والصدر الشأم ومصر والجناح الأيمن العراق وخلف العراق أمة يقال لها: واق واق وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله والجناح الأيسر السند والهند وخلف الهند أمة يقال لها: باسك وخلف باسك أمة يقال لها: منسك وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله والذ نب من ذات الحمام إلى مغرب الشمس وشر ما في الطير الذنب. وقال ابن عبد الحكم حدثنا أشهب بن عبد العزيز وعبد الملك بن مسلمة قال حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا " ثم ساق ابن عبد الحكم عدة أحاديث أخر بأسانيد مختلفة في حق مصر ونيلها في هذا المعنى. وقال أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز قاضي العراق: سألت أحمد بن المدبر عن مصر فقال: كشفتها فوجدت غامرها أضعاف عامرها ولو عمرها السلطان لوفت له بخراج الدنيا. وقال بعض المؤرخين: إنه لما استقر عمرو بن العاصي رضي الله عنه على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن صف لي مصر فكتب إليه: ورد كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر: اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء وشجرة خضراء طولها شهر وعرضها عشر يكنفها جبل أغبر ورمل أعفر يخط وسطها نيل مبارك الغزوات ميمون الروحات تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان يدر حلا به ويكثر فيه ذبابه تمده عيون الأرض وينابيعها حتى إذا ما اصلخم عجاجه وتعظمت أمواجه فاض على جانبيه فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب وخفاف القوارب وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته وطما في درته فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة وذمة مخفورة يحرثون بطون الأرض ويبذرون بها الحب يرجون بذلك النماء من الرب لغيرهم ما سعوا من كدهم فناله منهم بغير جدهم فإذا أحدق الزرع وأشرق سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء إذا هي عنبرة سوداء فإذا هي زمردة خضراء فإذا هي د يباجة رقشاء فتبارك الله الخالق لما يشاء. والذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقر قاطنيها فيها ألايقبل قول خسيسها في رئيسها وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل. فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لله درك يا بن العاص! لقد وصفت لي خبرًا كأني أشاهده. وقال المسعودي في تاريخه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بأهل مصر خيرًا فإن لهم نسبًا وصهرًا " أراد بالنسب: هاجر زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وأم ولده إسماعيل. ما ورد في نيل مصر روى يزيد بن أبي حبيب: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرًا قال: إي الذي فلق البحر لموسى عليه السلام! إني لأجد في كتاب الله عز وجل أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين: يوحي إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله له ثم يوحي إليه بعد ذلك: يا نيل عد حميدًا. وروى ابن يونس من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة " وعن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب الأحبار أنه كان يقول: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا فالنيل نهر العسل في الجنة والفرات نهر الخمر في الجنة وسيحان نهر الماء في الجنة وجيحان نهر اللبن في الجنة. وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار وسخر الله له كل نهر من المشرق إلى المغرب فإذا أراد الله تعالى أن يجري نيل مصر أمر الله كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها وفجر الله له الأرض عيونًا فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله عز وجل وعن أبي جنادة الكناني: أنه سمع كعبًا يقول: النيل في الآخرة عسل أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ودجلة " يعني جيحان " في الآخرة لبن أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ة وسيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل. وقال بعض الحكماء: مصر ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء فإن في شهر أبيب وهو تموز ومسرى وهو آب وتوت وهو أيلول يركبها الماء فيها فترى الدنيا بيضاء وضياعها على رواب وتلال مثل الكواكب وقد أحاطت بها المياه من كل وجه أفلا سبيل إلى قرية من قراها إلا في الزوارق وثلاثة أشهر مسكة سوداء فإن في شهر بابه وهو تشرين الأول وهاتور وهو تشرين الثاني وكيهك وهو كانون الأول ينكشف الماء عنها فتصير أرضها سوداء وفيها تقع الزراعات ة وثلاثة أشهر زمردة خضراء فإن في شهر طوبة وهو كانون الثاني وأمشير هو شباط وبرمهات وهو آذار تلمع ويكثر حشيشها ونباتها فتصير مصر خضراء كالزمردة ة وثلاثة أشهر سبيكة حمراء وهو وقت إدراك الزرع وهو شهر برمودة وهو نيسان وبشنس وهو أيار وبؤونة وهو حزيران ففي هذه الشهور تبيض الزروع ويتورد العشب فهو مثل السبيكة الذهب. وقيل: إنه لما ولي عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر أتاه أهلها حين دخل بؤونة من أشهر القبط المذكورة فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا عادة أو سنة لا يجري إلا بها فقال لهم: وما ذاك قالوا: إنه إذا كان في اثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر يعني بؤونة عمدنا إلى جارية بكر من عند أبويها وأرضينا أبويها وأخذناها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل فيجري فقال لهم عمرو بن العاص: إن هذا لا يكون في الإسلام وإن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجري النيل قليلًا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر بن الخطاب: قد أصبت إن الإسلام يهدم ما قبله وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم الكتاب على عمرو بن العاص رضي الله عنه فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر. أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فعرفهم عمرو بكتاب أمير المؤمنين وبالبطاقة ثم ألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقيم بمصالحهم فيها إلا النيل فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة وقطع تلك السنة القبيحة عن أهل مصر ببركة سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. ونظير ذلك أمر قرافة مصر ودفن المسلمين بها. فقد روينا بإسناد عن ابن عبد الحكم حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث بن سعد: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها! فسأله فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: إنا لا نعلم غراس الجنة ألا للمؤمنين فاقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أول من قبر فيها رجل من المعافر يقال له: عامر فقيل: عمرت قلت: والقرافة سميت بطائفة من المعافر يقال لهم القرافة نزلوا هناك. وقال بعض علماء الهيئة: إن مصر واقعة من المعمورة في قسم الإقليم الثاني والإقليم الثالث ومعظمها في الثالث. وقال أبو الصلت: هي مسافة أربعين يومًا طولًا في ثلاثين يومًا عرضًا. وقال غيره: هي مسافة شهر طولًا في شهر عرضًا. وطولها من الشجرتين اللتين ما بين رفح والعريش إلى مدينة أسوان من صعيد مصر الأعلى وعرضها من آيلة إلى برقة ويكتنفها جبلان متقاربان من مدينة أسوان المذكورة إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط يعني إلى مصر ثم يتسع بعد ذلك ما بينهما ويتفرج قليلا ويأخذ الجبل المقطم منهما مشرقًا والآخر مغربًا على وراب متسع من مصر إلى ساحل البحر الرومي وهناك تنقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أو غلها في الجنوب وأو غلها في الشمال. وقال بعض الحكماء: ليس في الدنيا نهر يصب في بحر الروم والصين والهند غير النيل. وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال غير النيل. وليس في الدنيا نهر يزيد في أشذ ما يكون من الحر غير النيل. وليس في الدنيا نهر يزيد وينقص على ترتيبٍ فيهما غير النيل. وليس في الدنيا نهر يزيد إذا نقص مياه الدنيا غير النيل. وبهذا النيل أشياء لم تكن في غيره من الأنهار من ذلك: السمكة الرغادة التي إذا وضع الشخص يده عليها اضطرب جسمه جميعه حتى يرفع يده عنها ومنها التمساح ولم يكن في غيره من المياه وفي مصر أعاجيب كثيرة.
|